في هذه الأيام القريبة من نهاية السنة التي ينظر كل واحد منّا فيها بصفاء قلب إلى ماضيه القريب والبعيد ويستخلص العبر؛ في هذا الزمن الصافي عندما ننظر إلى آفاق مستقبل باهر، يرحل فكري إليكم أنتم أيها الشباب. أنا أحبكم كثيرا وأنظر إليكم كلكم بعين أبٍ ورجلٍ يفكر دائماً وروحه تتطلّع إلى المستقبل. بالنسبة لي أنتم ملح الأرض، ناضجين وحرّاس المستقبل، تستحقون، مثلكم مثل كافة البشر، أن تعيشوا في السعادة وأن تسعوا إليها. عيونكم مضيئة وملأة بطاقة كبيرة: اتعرّف فيكم دائماً على شيء من الفرح والأمل وفي بعض الإحيان على شيء من خيبة الأمل أيضاً. الروح التي تنبثق من عيونكم هي من الحيوية بماكان، لدرجة أنني حتى عندما أعمل، أنتقل بعفوية من الشكل الإعتياي إلى شكل غير الإعتيادي واخاطبكم بالبساطة التي تجمع شقيق بشقيقه. عنما كنت في سنّكم لم أكن مختلفاً عنكم. أنا اليوم رجل سعى وراء حلمه الخاص، شخص جسّد الرغبة القديمة، وليدة عيني والدي اللامعتين الذي أضناه العمل: الحلم في العيش بشكل إنساني تجاه نفسي وتجاه الآخرين.
أّظنً دائنا أن ذلك جعل نيّتي نبيلة. لذلك في بعض الاحيان، عندما نجتمع في بعض المناسبات العامة، أنظر بعينين شاخصتين في أعينكم ودون أن أُغادرها طوال الوقت احب التكلم معكم عن حياتي، عن كيف أرى اليوم الفقر الذي عشته ايام طفولتي كهبة وليس كعقاب، كيف أن ذلك الفقر لم يكن ينقصه أي شيء، لا طعام ولا سعادة، وكيف أنني كنت أجد هذه السعادة، هذه الثروة الحقيقية، كل يوم في جمال الطبيعة: الفجر الأبيض كالزنبق، السماء المشعّة بالأزرق والأحمر، الشمس الأولى التي تجفف تدريجياّ الندى الفضّي، الموسيقى المتولدة من المطر في الأحراج، موكب الفصول النبيل.
غالباً ما اخبركم كيف أن الثروة ليست، كما يبدو، حملاً خفيفاً يمكن تحمله؛ وبانه يمكن تقبلها من الإنسان العادل فقط في حال تحولت إلى هبة. خلال حياتكم قد تعترضكم الآلام للأسف الشديد، كعدوٍ خبيث ينتظر كل واحد منّا مختبأ في الغد. غير أن زمن الألم، كما علمنا الكثر من حكماء الماضي، هو عبارة عن هبة، وكما قال بنوع خاص اوسكار وايلد، الذي رافقه الألم أكثر من سنتين إثنتين في سجن ريدنغ “هو الأكثر رقة بين المخلوقات”.
اُكلمكم متأثراً بشبابكم، بنظرة منصفة إلى العالم. إذا لم تعرفوا التطلع بعيداً سوف لن تجدون مبررات كثيرة لحياة حقيقية. غير أن النظر هو السبيل إلى كل حياة سعيدة مستديمة، وهو واحد من اثمن الهبات التي حصلنا عليها من الإنسانية. ليونْ باتّيستا ألبيرتي الذي جعل من العين المجنحة وسماً له كفنان كان يدرك ذلك. وُجِد النظر للمضي بعيداّ، أكثر ما يمكن بعيداً، حتى الافق، تماماً كنظرة إسكندر المقدوني الطفل عندما كان يقضي ساعات طويلة على شاطئ البحر وعيناه ترتقب الافق فيما كان قلبه يرفرف أبعد من ذلك الخط الأزرق المرتجف الذي يفصل بين الماء والسماء. كان يفكر بتلك الأراضي التي سوف يستولي عليها من أجل توحيد أهم ثقافات العالم المعلوم آنذاك.
بالنظر بعيداً بإمكانكم يا أعزائي الشباب تخيّل احلامكم الجميلة وتجسيدها وسوف تعونوا معى الوقت الذي لا يعرف العجالة عندما يريد بلوغ أهدافه الكبيرة، ذلك الوقت الذي هو قليل عندما نقيسه بالسنوات أو بعشرات السنوات، غير انه يبدأ بالتحليق عالياً عندما يتحول إلى قرن واحد أو أكثر. وبالإنتقال من الأحلام إلى المُثل أنظروا إلى السماء، أحِبوا الفن والجمال لأن فيها تكمن الحقيقة التي تجمع الروح إلى العالم الواقعي. تجنّبوا الغيظ الذي يسد سبيل الروح ويمنع السماء من نفخ سحرها عليها.
كانت حياتكم حتى اليوم حفيفة في بعض الأوقات أو مشوّهة بالأمل بسببنا نحن الآباء الذين ورّثناكم فكرة أن العمل يكاد يشبه القصاص الذي تواجهونه عندما في حال عدم مواظبتكم على الدراسة. لقد حان الأوان للمضي نحو نظرة جديدة: ليس من السهل التمكن من روحنا. كونوا من بين الذين تدركون فعل ذلك. وعندما تتأثرون بالتالي ببتلات الخشخاش المشتعلة او برائحة الفاكهة النضحة التي يحوم النحل حولها عندما يكون الريح الذي يعصف على هواه يبدو لكم كعطارد يبشر بإرض بعيدة ورسالته أشبه بموسقى ناعمة، ستكونون ساعتها في حالة مباركة من الأمل ومن العلم المتألق الذي ينتظركم. اقرؤوا كتباً: كما كان يفكر الأمبرطور الروماني أدريانو أن إنشاء المكاتب كبناء صوامع الحبوب العامة. لا حاجة دائماً لدراسة كل شيء. إذا كان الكتاب كتاباً حقيقياً، من ذلك النوع الذي يحكي فيه من عاش حياته بروح إنسانية حقيقته بكلام بسيط أو من النوع الذي تحتوي على حكم القدماء، افتحوه على أي صفحة كل صباح من شبابكم الجميل وطوال كل حياتكم الجميلة وأقروا على الأكثر اثني عشر سطراً مما يقع تحت نظركم. إنها طريقة لذيذة ومفيدة لبدء نهاركم. ولا تنسوا أنه إلى جانب ذكاء الدراسة يكمن ذكاء الروح.
لا تخشوا كثيراً أخطاءكم التي هي أخطاء الجميع، لأنه من التعثّر يبدأ الإنطلاق. لا تخجلوا إذا بكيتم، لأنه، كما قال يوما من الايام سائق السيّارات الكبير أيرْتن سينّا، الدموع هي وقود الروح. تذكّروا أن عملاً نبيلاً واحداً يعوّض أكثر من خطأ. تجنّبوا أن تفكّروا أنكم أفضل من غيركم لأن في كل واحد منّا متسعاً لأفكار عظيمة. كونوا دائما متفهمين نحو قريبكم، في العلاقات الاسرية، في الدراسة، في العمل، في حياتكم العاطفية، لأنكم في حال بقيتم مركزين على أنفسكم سوف يبقى السبيل الصحيح متعثّراً. السعادة لا تكمن في تملك الاشياء المرغوبة بل في حب من يستحق الحب.